بالصور..المهدية.. قرية القصور المهدمة
''المهدية فيها قصور ولا اللي في المهندسين'' هكذا بدأ أحد البدو حديثه معنا عند سؤاله عن القرية التي تردد اسمها كثيرا في الآونة الاخيرة تزامناً مع الانفجارات والاستهدافات لقوات الجيش والشرطة التي شهدتها وتشهدها محافظة شمال سيناء قبل 30 يونيو وبعده.
هذا دفعنا لسؤاله كي يصطحبنا إلى هناك معقل التكفيرين لكنه رفض طلبنا أكثر من مره معبرا عن خوفه وقلقه من خوض هذه التجربة خصوصا أنه ليس من أهل هذه المنطقة واصفا إيانا بـ''المجانين'' لرغبتنا في دخول ''عش الدبابير برجلينا''، غير آبهين بما قد يصيبنا.
المهدية المتاخمة للحدود المصرية مع إسرائيل، تبعد عن مدينة الشيخ زيد بمسافة تأخذ بالسيارة أكثر من نصف ساعة. إنها القرية التي تضم بين جنباتها عددا كبيرا من التكفيرين ومهربي الأفارقة أو من يسمونهم ''تجار العبيد'' ومهربي الأنفاق؛ الأولى إلى إسرائيل والثانية إلى غزة.
الجيش نفسه بكل ما يملكه من وسائل وأدوات، لا يستطيع دخول المهدية دون أن ترتيب مع أحد البدو، فالقرية المترامية الأطراف تحتاج لخبير في ضروبها، وعالم بأسرارها وأسرار أهلها لتتمكن من وصول مأربك بسهولة ويسر، غير أن البدوي الذي يتعاون مع الجيش أو الشرطة ربما يخسر حياته في لحظة حال علمت الجماعات التكفيرية وربما جماعات المهربين (لإسرائيل او لغزة) بهويته.
حُكي لنا كيف أن أحد المتعاونين مع الجيش، وكان يدل القوات على بيوت وأماكن اختباء التكفيريين من جماعة أنصار بيت المقدس مثل أبو منير وشادي وغيرهما، قتل قتلة بشعة على أيدي تلك الجماعات؛ حيث استوقفته سيارة رباعية الدفع وكان معه ''حريمه'' كما قيل لنا من بعض الأهالي، يقصدون ''أهل بيته''، وأنزلوه من سيارته وأخذوه، وفي صباح اليوم التالي وجده الأهالي بجوار منزله مذبوحا، وكان ذلك جراء تعاونه مع الجيش.
صعوبة دخول القرية على أي غريب عنها ترجع في الأساس إلى قلة عدد ساكنيها، فالمهدية لا يتعدى سكانها بضع مئات من المواطنين، موزعين على مساحة شاسعة من الأراضي، وبطبائع الأمور يعرفون بعضهم البعض وينتمون، الا قليلا منهم، إلى عائلة المنايعة التابعة لقبيلة السواركة الشهيرة. لذا بمجرد دخولك إليها يعرف كل أهلها أن غريبا على أرضهم فيسارعون إلى سؤالك عما تريد ولأي جهة تتبع، فأنت محل شك من قبل الأهالي، وأغلبهم مطاردين من قبل قوات الجيش والشرطة، حتى يطمئنوا إليك.
وهذا ما حدث بالضبط معنا فبعد رفض السائق الذي كان يصطحبنا للتجول في الشيخ زويد ونجع شيبانة والجورة، مبررا ذلك بأن هذه هي حدود منطقته وما عداها يعرضه ويعرضنا لخطر محدق، لذا فقد طلب من أحد زملائه لم يتخطى العشرين من عمره، ويدعى (أيمن...) أن يصطحبنا لهناك وذلك بعد أن أكد علينا أنه خير من يقوم بتلك المهمة لأن قريته مجاورة للمهدية، وهو أكثر دراية بشعاب المهدية وما حوليها، على حد قوله.
وكان أن اصطحبنا ''أيمن''، في سيارته الأجرة بيضاء اللون، الذي فرح بـ''التوصيلة''، التي يتقاضى مقابلها ضعف ما يتقاضاه في الأحوال العادية.
بدأت الرحلة من ميدان الشيخ زويد، واستغرق وصولنا لبدايات المهدية أكثر من نصف ساعة، تحدث خلالها الشاب كثيرا عن القرية والقرى المجاورة لها كالمقاطعة ونجع شيبانة والتوما والجورة، وتخلل حديثه حكايات عن حادثة وقعت هنا وأخرى هناك، وعن هذا الذي قتل في المواجهات بين الجيش والتكفيريين وعن الطائرة العسكرية التي أسقطت وعدد من البدو الذين قتلوا لتعاونهم مع الجيش، وهو ما أشرنا إلى قصة أحدهم أعلاه.
شادي المنيعي
كما تحدث أيمن عن شادي المنيعي، زعيم أنصار بيت المقدس، وكيف تحول الشاب العشريني والد الطفلين، من حال إلى حال، كيف أنه بدأ حياته كمهرب إلى غرة عبر الانفاق ثم أصبح بعد ذلك تاجر عبيد ( أفارقة من اثيوبيا وإريتريا) يقوم ببيعهم لصالح إسرائيل)، ثم أصبح ''فجأة صاحب دين يتحدث بقال الله والرسول بعد تعرفه على أبو منير''، الذي قتلته قوات الجيش هو وابنه ودمروا منزله والمسجد الذي بناه هناك.
كانت البيوت ''الفخمة'' المهدمة هي أكثر ما شاهدناه في القرية وما حولها، أشهر تلك البيوت بالطبع هو بيت شادي، بالرغم من أنه ليس الأفخم بين بيوت القرية، وبينما نحن نسير ونلتقط الصورة تلو الأخرى لهذا البيت ''القصر'' وهذا ''العشة'' البدائية بجواره، استلفت نظرنا أعلام مصر على بعض البيوت، سألنا أيمن فرد ''هذه علامة على أن صاحب البيت ليس تكفيريا، وإنه مؤيد للجيش في حربه مع التكفيريين''، مما يجنبه هدم بيته أو ضربه بصاروخ من طائرة أباتشي أخطأت هدفها، كما جرى كثير، بحسب زعم بعض أهالي القرية.
استغرقنا في التصوير والحديث مع السائق، فإذا بسيارة ''هيونداي - فيرنا'' فضية اللون تنطلق أمامنا وتقف فجأة قاطعة الطريق علينا، انتابنا الذعر، نزل السائق وإخذ يتحدث مع البدوي الذي ترجل سريعا من سيارته، بدى من منظرهما ولغة الإشارة أن الحديث ساخنا وأن مشادة في الطريق وان الخطر يقترب منا أكثر وأكثر، وبدأ صوتهما يرتقع أكثر وأكثر ، واسترقينا السمع فسمعنا قولا: ''خدهم بقى وامشي ومتجوش هنا تاني..''، الأمر الذي جعلنا نترجل من السيارة محاولين تهدئة غضب الرجل واستعطافه ليسمح لنا بالقيام بالجولة، وافق بعد إلحاح بعد أن أقنعناه بأننا لسنا تابعين للجيش أو أي جهة أخرى، وأننا صحافيان لا نبغي إلا أن ننقل ما نراه في المهدية وما نسمعه من أهلها. صمت ثم قال ''تعالوا ورايا''.
أتبعناه دون أن ننطق بكلمة وكان يسير بسرعة كبيرة وسط طريق مرصوف على جانبيه مزارع الزيتون التي تتخللها بعض البيوت. قال لنا بعض البدو في لقاءات سابقة أنه هذا الطريق أعدتها ورصفها الاحتلال الإسرائيلي إبان احتلاله لأرض سيناء الحبيبة التي تحررت عسكريا بعد حرب 73 وإن لم تتحرر سياسيا بعد خاصة المنطقة المتاخمة للحدود المعروفة بالمنطقة (ج)، حسبما قال لنا أحد أكبر المجاهدين السيناويين في مقابلة أجريناها معه بعد ثورة 25 يناير.
أخذ الشاب يلطف الجو المشحون بالخوف في سيارته، وحال أن يبين أن الأمر طبيعي وأنه لا خوف ولا يحزنون واننا سنقوم بجولتنا كاملة وسنرى منزل شادي ونجلس إلى بعض أهالي القرية. غاص الرجل بسياراته في الصحراء وسط مزارع الزيتون وخلافه، حتى بعد عنا. ظننا أنه تركنا لحالنا وبعث هذا في قلبينا بعض الطمأنينة، حتى توقفنا أمام إحدى المزارع وترجل السائق وذهب لاستئذان أهل المزرعة للحديث معهم والتصوير، بينما نحن ننتظر ظهوره، إذا بسيارة البدوي تتقدم نحونا بأقصى سرعة وترجل منها أربعة شباب ثلاثة منهم ملثمين واثنين حفاة بدون أحذية في أرجلهم.
انعقدت ألسنتنا وتسمرت أرجلنا في الأرض وقلنا في أنفسنا ''نحن هالكين بلا محالة''، تقدم البدوي نحونا هو وزملاءه الثلاثة، بادئنا بالحديث وسلمنا عليهم محاولين إبداء بعض الشجاعة، سألناه عن الذي نريده أوضحنا مهمتنا مشددين على أننا ''لسنا تبع الجيش'' ولسنا نعمل في أي مؤسسة صحفية حكومية وأظهرنا هوياتنا الصحفية. بعد تأكدهم من ذلك و''ارتياحهم لنا''، كما قال السائق، سمحوا لنا بالتجول في القرية وتصوير البيوت المهدمة والحديث إليهم شرط ألا نذكر أسماءهم أو نصورهم، لم يكن أمامنا سوى الموافقة.
ما هي إلا دقائق قليلة حتى ظهر أيمن ومعه أحد رجالات القرية، الذي بدى بشوشا بعض الشيء، وكان ذلك الرجل يملك بيتا من أربعة أدوار كاملة المرافق والتشطيبات، أصبح كومة ركام بعد أن ''زرع الجيش لغم في جدرانه''، حسبما قال. كان الرجل على عجلة من أمره، فنادى على ابنه.
جاء الابن وكان مستيقظا من النوم لتوه، وفي يده سيجارة لم تفارقه طوال حديثنا وتجولنا. أخذنا الخمسة شباب الآخرين في بادئ الأمر إلى فيلا من دورين مهدمة بعض حوائطها والنار مضرمة في أجزاء كثيرة منها والأثاث مهشم سواء في الصالة الفسيحة أو المطبخ المجهز بأحدث التجهيزات، وأجهزة التكييف المعطلة. تجولنا في الفيلا وآخرتين شبيهتين بها يجاورونها، وتفاصيل أخرى كثيرة تحكيها بشكل أكثر واقعية الصور التي التقطناها من هناك.
''البيت الكبير''
عودة إلى ''البيت الكبير'' الذي قص علينا السائق أثناء الطريق بعض الحكايات عنه منها أنه تكلف ما يقرب من 3 ملايين جنيه، ''والستائر وحدها كلفت 80 ألف جنيه''، الأمر الذي يظهر مدى البذخ الذي يعيشه هؤلاء القوم رغم فقر الحياة حولهم الذي تلاحظه من أول وهلة.
المبنى هذا كان عبارة عن فيلا من أربعة أدوار، تحوطها سور ولها ثلاثة أبواب من اتجاهين، وبداخله زرعت بعض أشجار الزيتون واللوز التي تشتهر بها المنطقة. لم يبق من البيت سوى بعض الركام و''مقعد'' – مكان يستقبل فيه البدو ضيوفهم وهو بعيد عن المكان الذي تعيش فيه الأسرة – ظهر أنه مهجور، بجواره كانت الحمامات التي ظهر أنها كانت ''تشطيب سوبر لوكس''، وكانت كافة الأدوات الصحية محطمة. على مقربة منها كانت سيارة دفع رفاعي ''تويوتا – لاند كروزر''، سعرها يتخطى النصف مليون جنيه حسب سوق التهريب، بينما سعرها الحقيقي يتجاوز 750 ألف جنيه، أتت عليها النيران بالكامل.
يقول ابن صاحب البيت، وهو حال على دبلوم المدارس الفنية الصناعية، ''ايه ذنب البيت.. أنا كنت عامله على أعلى مستوى وكان فيه حمام سباحة ع السطح.. شوف جابوه على الأرض ازاي''، مشيرا إلى أن بيته هدم باستخدام الألغام. لم يتطرق جميعهم لمصادر دخلهم التي تجعلهم يشيدون هذه ''القصور الفخمة''.
تحدث الشاب الخمسة أيضا عن الحملات العسكرية وكيف يهربون منها أو يواجهون القوات في بعض الأحيان. وقال أحدهم ''في أغلب الأحيان نعرف قبل الحملة.. وبنهرب للصحراء.. ومحدش يقدر يجيبنا... ميعرفوش الطرق الا لو معاهم حد من البدو''، وفي هذه الأحوال يضرب رجال الأمن النار في البيوت التي لايجدوا أصحابها ''الرجال'' بعد أن يخرجوا أهلها، وفي أحيان أخرى تدوي في سماء القرية طائرات الأباتشي التي توجه صواريخها إلى بيوت أو عشش بعينها تتبع ''التكفيريين''.
المصدر http://www.masrawy.com/News/reports/2014/march/6/5844872.aspx
تعليقات
إرسال تعليق